في الرياضيات والمطلقية
طرح المشكلة :هل الرياضيات –هذه الصناعة المجردة- مستخلصة من أصلها البعيد ،من العقل أو من التجربة ؟ وهل في كل الأحوال ،صناعة دقيقة في المنهج والنتائج ؟ وإلي أي حد يمكن القول بأن الرياضيات حدودًا ومآخذ؟
1) على الرغم من أنها صناعة مجردة ، هل الرياضيات في أصلها ،صادرة عن العقل بالضرورة ؟ أليس للتجربة تأثير في وجودها؟
أولا:أصلها عقلي: يرى العقليون أوالمثاليون أمثال "أفلاطون" و"كانط"و "ديكارت" أنه يمكن للإنسان الوصول إلى تحقيق معرفة جوهرية عما يحيط به من الأشياء ، إلا بواسطة الإستدلال العقلي الخالص وبغير اللجوء إلى مقدمات تجربية بحيث أن المبادئ العقلية مبادئ فطرية سابقة لكل تجربة ، تتصف بمميزات كالمطلقية والضرورة والكلية وهي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية ، يتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة كما ،أنه لا يمكن أن تكون التجربة بديلة للعقل في مجال الرياضيات ، ومن ثم فإن الرياضية مفاهيم مجردة نابعة من العقل موجودة فيه قبلاً ، مستقلة عن التجربة المتغيرة وعن الإدراك الحسي ، فلقد أعطى "أفلاطون" الأسبقية للعقل الذي يستمد أحكامه من عالم "المثل" بحيث كان على علم بسائر المعطيات الرياضية الأولية التي هي أزلية وثابتة ،وعلى الذهن إلا تذكرها.
أما "ديكارت" فيرى أن المعاني الرياضية من أعداد وأشكال هي أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية مثل فكرة( الله ) وتمتاز هذه الافكار بالبساطة واالبداهة و اليقين وأن الناس جميعا يشتركون فيها، ويقيمون عليها إستنتاجاتهم، أما "كانط" ،ف، أما "كانط" ،فعتبر أن المكان والزمان مفهومان مجردان ،كماأنهما شرط في كل علاقة تتجلي بين المحسوسات ،وطبيعتهما أولية تجعلهما يتصفان بالضرورة ،وهي أيضا صفة لا نجدها إلا في القضايا الرياضية القائمة على هذين المفهومين الزمان والمكان ، إذن ليست المفاهيم الرياضية مستخلصة من التجربة الحسية إنما هي تجريدات منزهة عن ذلك نمستقرة في الذهن فبل التجربة .
ثانيا: أصلها تجريبي : أن المبادئ والمفاهيم الرياضية مثلها مثل جميع معارفنا كلها ترد إلى العالم الحسي أو التجريبي فهو مصدر اليقين المعرفة ،ومثل هذا الموقف "لوك"، "هيوم" ،"مل" كما إعتبروا أن المعرفة العقلية هي مجرد صدى للإدراكات الحسية لأن حسبهم الذهن صفحة بيضاء ،وفي هذا السياق يقولون
لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد قبل ،في التجربة ). كما يقولون أيضا
أن القضايا الرياضية،التي هي أفكار مركبة ليست سوى مدركات بسيطة ، هي عبارة عن تعميمات ،مصدرها التجربة.) وحججهم في ذلك هو أن الطفل في مقتبل عمره يدرك العدد كصفة للأشياء ،و أن الرجل البدائي لا يفصل العدد عن المعدود ، إذ يستعمل لكل نوع من الأشياء مسميات خاصة ، كما أن المفاهيم الرياضية بالنسبة إلى الأطفال والبدائيين لا تفارق مجال الإدراك الحسي لديهم ، وكأنها صفة ملابسة للشيء المدرك .
كما أن تاريخ العلوم يبين أن الرياضيات قبل أن تصبح علم عقليًا ، قطعت مرحلة تجريبية ودليل ذلك هو أن العلوم المادية تطورت قبل غيرها مثل الهندسة ، كما أن المفاهيم الرياضية الأكثر تجريدا أخذت نشأتها بمناسبة مشاكل محسوسة مثل حساب مكعب البرميل ،وكذلك ألعاب الصدفة التي أدت إلى ظهور الإحتمالات
ثالثا : الإغراق في التجريد من طبيعة الرياضيات:إنه لا يمكن تصور عالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب العالم الخارجي ، كما انه لاوجود للأشياء المحسوسة في غياب الوعي الإنساني وبمغزل عن الملكة العقلية فهذا هو واقع المعاني الرياضية أي أنها تنشأ دفعة واحدة وأن فعل التجريد أوجدته عوامل موضوعية حسية ، كما أعتبر "فيرناردغونزبث" أن في كل بناء تجريدي ،يوجد راسب حدسي يستحيل محوه وإزالته ، وليس هناك معرفة تجريدية خالصة ولا معرفة عقلية خالصة بل كل ما هناك أن أحد الجانبين عقلي والأخر تجريبي قد يطغي أحدهما على الآخر،دون أن يلغيه تماما ، وهذا ما دفع بي "بياجي" لأن يعتبر أن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، وأن التجربة ضرورية لعملية التشكل والتجريد.
2) على الرغم من مكانتها السامية بالنظر إلى مناهجها ونتائجها وهل يمكن وصفها بالصناعة الصحيحة في كل الأحوال في منطقاتها و إستنتاجاتها ؟
أولا : من حيث المنهج والمنطلقات :
1)منطلقات المنهج:إن هذه المنهجية تقوم على الإستدلال و الإستنتاج والإستدلال يعتمد على منطلقات أولية من أجل البرهنة على صدق أو كذب قضية مطروحة للحل وهاته المنطلقات هي :
أ) البديهيات: وهي قضايا غاية في الوضوح لا تحتاج إلى البرهان ،قضايا تفرض نفسها وهي قضايا بديهية تستند إلى مبادئ تماسك العقل مع ذاته مثل
الكل أكبر من الجزء)،و (الشيئين المساويين لثالث متساويين).
ب) المسلمات
المصادرات) وهي قضايا غير بينة في ذاتها ،يضعها العقل كمطلب ويسلم بصدقها قصد بناء برهان نمثل مصادرات "إقليدس"القائلة بأن"من نقطة خارج مستقيم،لايمكن رسم إلا موازي واحد"
ج) التعريفات:جمع تعريف وهي القول الشارح لمفهوم الشيء أو مجموع الصفات التي تكون هذا المفهوم وتميزه عما عداه بحيث يساوى التعريف معرفه ،من أمثلتها :
لمثلث ؛هو شكل هندسي يتألف من ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا.
2)أساليب البرهنة: هناك طريقتان
أ)الطريقة المباشرة:
*طريقة التحليل المباشر: وتقوم على إرجاع القضية المراد إثباتها إلى قضايا أخرى أبسط منها معروفة لدى الرياضي وسبق له إثباتها، وهي طريقة الصعود من النتائج إلى المبادئ حيث يقوم بحركة تراجعية . مثل إيجاد قيمة المجهول في المعادلة: س +6 =12.ففي هذه الحالة يقتضي الأمر تطبيق بديهية قائلة.بطرح نفس الكمية من طرفي المساواة لا يغير في المساواة بحيث نجد الحل هو (س= 6)
* طريقة التحليل غير المباشر :يلجأ إليها الرياضي في حالة يكون التحليل المباشر غير مجدي بحيث يسلك الرياضي طريقا أخرًا ، فيلتزم بالتسليم بالنتائج بدون ردها إلى أي مبادئ أولية ،وينطلق في محاولة أثبات النقيض ومن كذبها يستنتج صدق القضية المراد إثباتها مثال: إذا كان (أ)يوازي(ب) ،و(ب)يوازي(ج)،المطلوب إثبات هل (أ) يوازي (ج) بحيث نفترض أن (أ) لا يوازي (ج) حتى نثبت العكس.
ب) الطريقة التركيبية:وفي هذه الطريقة ينزل الرياضي من المبادئ إلى النتائج بحيث تتجلى قدرة الذهن على الإنشاء والخلق وإيجاد العلاقات المتنوعة و الجديدة ، بحيث ننتقل من البسيط إلى المركب مثل :المطلوب التركيب بين المعادلتين الآتيتين: س-2= 0 ،و س-3=0 وبعد عملية الضرب نحصل على معادلة من الدرجة الثانية س² -5س +6 =0.
ثانيا: من حيث النتائج:إذا كان هدف باقي العلوم ما عدا الرياضيات الوقوف على نتائج متصفة بالدقة و اليقين فإن الرياضيات تشفي الغليل في هذا الجانب ، أي أن نتائجها واضحة ودقيقة وتفرض وضوحها على العقل وهذا نابع من طبيعتها المجردة التي تختلف عن باقي العلوم ذات الطابع التجريبي .
ثالثا:وهل يمكن وصفها بالصناعة الصحيحة في كل الأحوال ، في منطلقاتها و إستنتاجاتها؟
نكتفي تحت هذا السؤال ، بالقول بأن الرياضيات صناعة صحيحة بالنظر إلى العلاقة المنطقية التي تربط المقدمات بنتائجها ، مادام الفكر الرياضي يبقي وفيًا من خلال إستدلالاته الإستنتاجية ، بمبدأ عدم تنازع العقل مع نفسه . أما المنطلقات التي يبدأ منها الفكر في برهنته ، فقيمتها تابعة لتقدير واضعيها وإختيارهم لها.
3) إلى حد يمكن القول بأن للرياضيات حدود ومآخذ ؟
أولا :حدودها ومآخذها بالنظر إلى المجال الحسي :أن الحقائق الرياضية التي توصف باليقين ،عندما تنزل إلى مجال التطبيقات التجريبية تفقد دقتها وتقع في التقريبات،فمثلا عندما نقدر العدد( )تقديرا عدديا وعمليا ،من أجل حساب مساحة الدائرة بهذه القيمة العددية علما أن قيمتها(3.14 ) فهي قيمة تقريبية أصلها 22/7 فالنتائج المتحصل عليها تكون تقريبية .أما في مجال الهندسة فتغير المبادئ الثابتة في مجال الهندسة من الإقليدية إلي اللاإقليدية من مفاهيم ثابتة إلي معايير متغيرة خاصة مع"ريمان"و "ليوباتشوفسكي" وهذا ما جعل الرياضيين و المناطقة المحدثين ،يعتبرون النسق الرياضي مجرد نسق "فرضي إستنباطي "أي يقوم علي أسس إفتراضية ،لم يقدم البرهان أي شيء عن صحتها .
وما يترتب عن حركة تطور العلاقات الداخلية للرياضيات ،ظهور منهج الأكسيوماتيكي القائم على الافتراض والاستنتاج ،التأكيد على عدم تناقض النتائج مع المقدمات المفترضة ، فالرياضيون أنفسهم ،لم تعد تهمهم فكرة الملاءمة أو بساطة ووضوح البادئ والأوليات التي إعتبرت مجرد موضعات أو تعاريف مقنعة ،بل حصروا إهتمامهم في رفع كل تناقض قد يطرأ بين المنطلقات الافتراضية والنتائج المترتبة عنها .
ثانيا:مزاياها بالنظر إلى سياقها ونسقها :
رغم تعدد الأنساق الرياضية إلا أن النسق الأستبناطي يبقي قائما ولا يسقط كما أن المعرفة الرياضية بصورة خاصة ،لا تكتسي صبغة يقينية مطلقة إلا في سياقها ومنطلقاتها ومبادئها وانسجامها معها على صورة نسق منطقي ،وهذا يجعل من حقائقها حقائق نسقية ،ومن يقينها يقينا تابعا لعقلانية المقدمات ونتائجها الضرورية و المقصود بالعقلانية هنا ،انسجام الفكر مع نفسه.
ثالثا: الحكمة الفلسفية من هذا الطرح: أن الغرض الذي تسعي إليه الفلسفة في مثل هذا المجال الوقوف ،الحقيقة على أبعادها المطلقة التي لا يشوبها تغير ولا غموض ولا اضطراب ، خاصة نتائج الرياضيات التي توصف بالدقة رغم تنوعها واختلافها ،وأن السر الذي كسفت عنه فلسفة الرياضيات ،هو استقرار الخيط الذي يصل المنطلقات بالمنتهيات ،وتقدمه من العلوم نحو المجهول على أساس مبدأ الهوية أو مبدأ عدم التناقض.
خاتمة: حل المشكلة
أن أهم ميزة جعلت النسق الرياضي أمن من التغير والنسبية هو طابع التجريد الذي ينفرد الفكر الرياضي عن باقي العلوم الأخرى وكذلك حرصه على الانسجام في انتقاله من مرحلة إلى أخرى ومن المقدمات إلى النتائج ،أقام حصنا حينا ضد النتاقض والاضطراب